كان معروفا عن هانز كريستيان أندرسن أشهر مفكر وكاتب دانماركي شدة الخوف، حتي أن البعض قالوا إنه يخشي ظله. مما كتب عنه أنه عندما كان يقضي ليلة في فندق، كان يضع في حقيبته حبلا يربطه بالنافذة للفرار في حالة وقوع حريق. كما كان يخاف أن يدفن حيا، لذلك كان يترك ورقة أمام سرير النوم كتب عليها: أنا نائم ولست ميتا. اليوم يرقد أندرسن الذي توفي في عام 1875 وترك أكثر من 160 رواية في ثمانية ملفات في مقبرة (أسيستانز) بمدينة كوبنهاجن.
اليوم لم يعد أندرسن أشهر دانماركي وإنما حل مكانه كورت وسترجارد البالغ 73 سنة من العمر. وهذا لم يؤلف كتباً ولا روايات لكنه تسبب في مشكلات لبلاده والشعب الدانماركي فقط لأنه عكس حقد فئة من الدانماركيين علي الإسلام. قبل عامين نشرت أكبر صحيفة دانماركية اسمها Jylland -Posten التي تطبع يوميا 150 ألف نسخة مجموعة كبيرة من الصور الكاريكاتيرية التي أثارت ضجة في العالم الإسلامي بصورة خاصة لأنها عمدت إلي الإساءة إلي خاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد (صلي الله عليه وسلم). كان هذا قمة الربط بين الإسلام والإرهاب بعد الحقد الذي انتشر في الفئات اليمينية المتطرفة في الغرب التي استغلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 لتفجر حقدها الأعمي، ولا زالت تفعل إلي اليوم، ضد الإسلام والعرب.
ولولا نشر الرسوم المسيئة للنبي العظيم (صلي الله عليه وسلم) في الدانمارك لما نشرت في صحف في أسبانيا وألمانيا وفرنسا وغيرها بحجة التضامن مع الصحيفة الدانماركية دفاعاً عن التعبير عن الرأي. فحرية التعبير عن الرأي في هذه الحالة تم الاعتداء عليها واستغلت ولا تزال لبث الأحقاد.
وقد قامت مبادرات لتطويق ما عرف بأزمة الرسوم. قبل أيام يبدو أن مرحلة لنشر هذا الحقد قد بدأت ومن الصعب حسب نتائجها. عملية استفزاز جديدة قامت بها سبع صحف دانماركية عندما نشرت من جديد مجموعة الرسوم التي أثارت ضجة كبيرة في العالم الإسلامي علي وجه الخصوص وتسببت بمقتل 150 شخصا خلال تظاهرات احتجاج لا مثيل لها. وتذرعت هذه الصحف بأنها قامت بنشر الرسوم مجددا ردا علي مزاعم سلطات الأمن في الدانمارك أنها أحبطت خطة لاغتيال رسام الكاريكاتير وسترجارد. مرة أخري استغل الحاقدون حرية التعبير عن الرأي وأساءوا استخدامها مثلما فعلت صحيفة Politiken التي أعادت نشر الرسوم وقالت في افتتاحيتها إن صحيفة Jyllands-Posten تستحق التضامن اللا مشروط حين تتعرض إلي التهديد بالإرهاب.
ما قالته صحيفة Politiken لا يختلف عما قاله رؤساء تحرير الصحف الأخري التي نشرت الرسوم ضمن عملية استفزازية، لكن هل كان هناك ضرورة لذلك؟ ألم يكن من الأفضل استخدام منطق العقل وأن تلعب الصحف التي أعادت نشر الرسوم ومعشر السياسيين الدانماركيين الذين صفقوا لهذه الخطوة الاستفزازية دورا في مد جسور التفاهم والدعوة إلي التهدئة بدلا من صب الزيت علي النار؟
بالنسبة لكثير من الدانماركيين ليس من الضروري أبدا التصرف وفقا لرؤية سياسية سليمة وحكيمة. وليس من المهم بالنسبة لهم ماذا يفكر به الغير. علي سبيل المثال السياسية اليمينية المتطرفة بيا كياريسجارد قالت تعقيبا علي استهجان الرأي العام العالمي لخطوة إعادة نشر الرسوم بقولها: لا يهمنا إطلاقا رأي العالم فالمهم فقط رأينا نحن الدانماركيين.
تبرز هذه القضية أن الدانماركيين يفسرون حرية التعبير عن الرأي وفقا لمزاجهم وبصورة تختلف عن رأي الغير بحرية التعبير عن الرأي. ورأيهم أنه يجب قول كل ما ينبغي قوله، ونشر كل ما ينبغي نشره، بغض النظر عن جرح مشاعر الآخرين والتسبب في أذي دين آخر. الملاحظ أن الصحف الدانماركية لم تتعرض في تاريخها إلا للإسلام، كما أن الرسوم المسيئة للنبي محمد (صلي الله عليه وسلم) من وحي خيال رجل طلب منه رسم كاريكاتير ناقد للإسلام فوضع علي الورق ما خالجه خياله الضيق. أكثر من هذا أن حكومة رئيس الوزراء راسموسين لم تتخذ إجراءات مناسبة كي يجري منع تكرار مثل هذا العمل بعد التوتر الذي حصل قبل عامين. بل علي العكس، في مطلع فبراير الحالي أعلنت المكتبة الملكية في كوبنهاجن أن مجموعة الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة لرسول الله (صلي الله عليه وسلم) هي مجموعة تاريخية قيمة، وهذا الإعلان عبارة عن استفزاز واضح للمسلمين ولكل شخص يحترم حرية التعبير عن الرأي، واعتداء علي تقارب الحضارات وضربة لكل المبادرات التي سعت إلي إزالة التوتر الذي نشأ نتيجة نشر الرسوم قبل عامين.
لكن اللوبي الذي أشعل فتيل الأزمة قبل عامين أبي أن يفوت علي نفسه فرصة لاحت لتكرار الإساءة للرسول العظيم (صلي الله عليه وسلم) وجرح مشاعر المسلمين. الفرق بين إعادة نشر الرسوم في عام 2008 ونشرها في الماضي في عام 2006 لا يتعلق بالحكم علي حرية التعبير عن الرأي ونفوذ الصحافة وأثر ذلك علي السلام الاجتماعي والعلاقات بين الثقافات والشعوب والدول، فحين لم يكن ممكنا تجنب نشرها في عام 2006 كان يمكن تجنب ذلك في عام 2008 ومن يعلم فقد يعاد نشرها بعد إعلان المكتبة الملكية في كوبنهاجن أنها أصبحت وثائق تاريخية! هذه المرة إعادة نشرها كان لإثبات النفوذ وفي إطار تحد لأشخاص كما تقول سلطات الأمن الدانماركية كانوا يخططون لاغتيال وسترجارد رغم أنهم لا يمثلون إلا أنفسهم ولا يعبرون عن المسلمين لأن الإسلام دين محبة وعفو وتسامح ينبذ العنف. ولو قدر الله وأن نجحوا في مخططهم لكان المسلمون أول من أدان واستنكر. لكننا لا نعرف الكثير عن الذين تتهمهم السلطات الدانماركية بالتخطيط لاغتيال وسترجارد.
كما يرغب الدانماركيون الذين يقفون وراء عملية الاستفزاز الجديدة، سوف تحصل احتجاجات واضطرابات جديدة في دول إسلامية وعلي هؤلاء أن يسألوا أنفسهم إذا كان الاستفزاز الجديد ضروريا، وأنهم بذلك يسيئون لبلدهم وشعبهم أكثر مما يحاولون الإساءة لطرف آخر. من يريد حوار الحضارات لا يعيد طبع رسوم مستوحاة من نظرة ضيقة كما أن نشرها تسبب في مقتل عشرات الأشخاص الذين جرحت مشاعرهم وكان يجب أن يأخذ رؤساء تحرير الصحف الدانماركية هذا بعين الاعتبار. لقد أخطأت الدانمارك فلتعتذر، لا عيب في الاعتذار علي خطأ لكن من الخطر السكوت علي مثل هذا الخطأ.
